الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ فأجاب: وأما الجمع فإنما كان يجمع بعض الأوقات إذا جد به السير، وكان له عذر شرعي. كما جمع بعرفة ومزدلفة، وكان يجمع في غزوة تبوك أحياناً، كان إذا ارتحل قبل الزوال أخر الظهر إلى العصر ثم صلاهما جميعاً، وهذا ثابت في الصحيح. وأما إذا ارتحل بعد الزوال، فقد روي أنه كان صلى الظهر والعصر جميعاً، كما جمع بينهما بعرفة، وهذا معروف في السنن. وهذا إذا كان لا ينزل إلى وقت المغرب، كما كان بعرفة لا يفيض حتي تغرب الشمس. وأما إذا كان ينزل وقت العصر، فإنه يصليــها في وقتها، فليس القصر كالجمع، بل القصر سنة راتبة، وأما الجمع، فإنه رخصة عارضة، ومن سوي من العامة بين الجمع والقصر، فهو جاهل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأقوال علماء المسلمين. فإن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقت بينهما. والعلماء/ اتفقوا على أن أحدهما سنة، واختلفوا في وجوبه، وتنازعوا في جواز الآخر، فأين هذا من هذا؟! وأوسع المذاهب في الجمع بين الصلاتين مذهب الإمام أحمد، فإنه نص على أنه يجوز الجمع للحرج، والشغل، بحديث روي في ذلك. قال القاضي أبو يعلى وغيره من أصحابنا: يعني إذا كان هناك شغل يبيح له ترك الجمعة والجماعة، جاز له الجمع، ويجوز عنده وعند مالك وطائفة من أصحاب الشافعي الجمع للمرض، ويجوز عند الثلاثة الجمع للمطر بين المغرب والعشاء. وفي صلاتي النهار نزاع بينهم ويجوز في ظاهر مذهب أحمد ومالك الجمع للوحل، والريح الشديدة الباردة، ونحو ذلك. ويجوز للمرضع أن تجمع إذا كان يشق عليها غسل الثوب في وقت كل صلاة، نص عليه أحمد. وتنازع العلماء في الجمع والقصر: هل يفتقر إلى نية؟ فقال جمهورهم: لا يفتقر إلى نية، وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب أحمد، وعليه تدل نصوصه وأصوله. وقال الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد: إنه يفتقر إلى نية. وقول الجمهور هو الذي تدل عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قد بسطت هذه المسألة في موضعها. والله أعلم.
/ فأجاب: الحمد لله رب العالمين، يجوز الجمع بين العشاءين للمطر، والريح الشديدة الباردة، والوحل الشديد. وهذا أصح قولي العلماء، وهو ظاهر مذهب أحمد ومالك وغيرهما. والله أعلم.
فأجاب: الحمد لله، نعم يجوز الجمع للوحـل الشديد، والريح الشديدة الباردة، في الليلة الظلماء، ونحو ذلك.وإن لم يكن المطر / نازلا في أصح قولي العلماء. وذلك أولي من أن يصلوا في بيوتهم، بل ترك الجمع مع الصلاة في البيوت بدعة مخالفة للسنة؛ إذ السنة أن تصلى الصلوات الخمس في المساجد جماعة،وذلك أولي من الصلاة في البيوت باتفاق المسلمين. والصلاة جمعا في المساجد أولي من الصلاة في البيوت مفرقة باتفاق الأئمة الذين يجوزون الجمع: كمالك، والشافعي، وأحمد. والله ـ تعالى ـ أعلم.
قَالَ ـ رَحمه الله: وأما الصلوات في الأحوال العارضة، كالصلاة المكتوبة في الخوف، والمرض، والسفر، ومثـل الصـلاة لدفـع البـلاء عنـد أسبابـه كصلـوات الآيـات في الكسـوف ونحوه، أو الصـلاة لاستجـلاب النعماء كصـلاة الاستسقاء، ومثـل الصـلاة على الجنـازة: ففقهاء الحـديث ـ كأحمـد وغـيره ـ متبعون لعامـة الحـديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابـه في هذا الباب فيجوزون في صـلاة الخوف جميـع الأنـواع المحفـوظـة عـن النبي / صلى الله عليه وسلم، ويختارون قصر الصلاة في السفر، اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم. فإنه لم يصل في السفر قط رباعية إلا مقصـورة، ومن صلى أربعا لم يبطلوا صلاته؛ لأن الصحابة أقروا من فعل ذلك منهم، بل منهم مـن يكره ذلك، ومنهم من لا يكرهه وإن رأي تركه أفضل. وفي ذلك عن أحمد روايتان. وهذا بخلاف الجمع بين الصلاتين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله إلا مرات قليلة، فإنهم يستحبون تركه، إلا عند الحاجة إليه اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، حين جد به السير، حتي اختلف عن أحمد: هل يجوز الجمع للمسافر النازل الذي ليس بسائر أم لا؟ ولهذا كان أهل السنة مجمعين على جواز القصر في السفر، مختلفين في جواز الإتمام، ومجمعين على جواز التفريق بين الصلاتين، مختلفين في جواز الجمع بينهما. ويجوزون جميع الأنواع الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة [الكسوف]. فأصحها وأشهرها أن يكون في كل ركعة ركوعان. وفي الصحيح ـ أيضاً ـ في كل ركعة ثلاث ركوعات، وأربعة، ويجوزون حذف الركـوع الزائـد ، كما جاء عن النبـي صلى الله عليه وسلم، ويطيلون السجود فيها، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويجهرون فيها بالقراءة. كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. /وكذلك [الاستسقاء] يجوزون الخروج إلى الصحراء، لصلاة الاستسقاء، والدعاء كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوزون الخروج والدعاء بلا صلاة. كما فعله عمر ـ رضي الله عنه ـ بمحضر من الصحابة. ويجوزون الاستسقاء بالدعاء تبعاً للصلوات الراتبة، كخطبة الجمعة ونحوها، كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك [الجنازة] فإن اختيارهم أنه يكبر عليها أربعاً، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أنهم كانوا يفعلونه غالبا. ويجوز على المشهور عند أحمد التخميس في التكبير، ومتابعة الإمام في ذلك؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر خمسا، وفعله غير واحد من الصحابة، مثل على بن أبي طالب وغيره. ويجوز ـ أيضاً على الصحيح ـ عنده التسبيع ومتابعة الإمام فيه؛ لما ثبت عن الصحابة أنهم كانوا يكبرون أحيانا سبعاً، بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ولما في ذلك من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم
/ الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أما بعد، فهذه قاعدة في الأحكام التي تختلف بالسفر والإقامة ـ مثل قصر الصلاة والفطر في شهر رمضان ونحو ذلك. وأكثر الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم جعلوها نوعين: نوعا يختص بالسفر الطويل وهو: القصر والفطر. ونوعا يقع في الطويل والقصير كالتيمم والصلاة على الراحلة، وأكل الميتة هو من هذا القسم، وأما المسح على الخفين والجمع بين الصلاتين فمن الأول، وفي ذلك نزاع. والكلام في مقامين: /أحدهما: الفرق بين السفر الطويل والقصير فيقال: هذا الفرق لا أصل له في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بل الأحكام التي علقها الله بالسفر علقها به مطلقا كقوله تعالى في آية الطهارة: وقول النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة). وقول عائشة: فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيدت في الحضر. وقول عمر: صلاة الأضحي ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (يمسح المقيم يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن). وقول صفوان بن عَسَّال:/ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفرا أو مسافرين ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولكن من غائط أو بول أو نوم. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم). وقوله صلى الله عليه وسلم: (السفر قطعة من العذاب؛ يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه فإذا قضي أحدكم نهمته من سفر، فليتعجل الرجوع إلى أهله) فهذه النصوص وغيرها من نصوص الكتاب والسنة ليس فيها تفريق بين سفر طويل وسفر قصير. فمن فرق بين هذا وهذا فقد فرق بين ما جمع الله بينه فرقا لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله. وهذا الذي ذكر من تعليق الشارع الحكم بمسمي الاسم المطلق وتفريق بعض الناس بين نوع ونوع من غير دلالة شرعية له نظائر. منها: أن الشارع علق الطهارة بمسمي الماء في قوله: ومنها: أن الشارع علق المسح بمسمي الخف، ولم يفرق بين خف وخف، فيدخل في ذلك المفتوق والمخروق وغيرهما من غير تحديد، ولم يشترط ـ أيضاً ـ أن يثبت بنفسه. /ومن ذلك: أنه أثبت الرجعة في مسمى الطلاق بعد الدخول ولم يقسم طلاق المدخول بها إلى طلاق بائن ورجعي. ومن ذلك: أنه أثبت الطلقة الثالثة بعد طلقتين وافتداء، والافتداء: الفرقة بعوض وجعلها موجبة للبينونة بغير طلاق يحسب من الثلاث. وهذا الحكم معلق بهذا المسمى لم يفرق فيه بين لفظ ولفظ. ومن ذلك: أنه علق الكفارة بمسمي أيمان المسلمين في قوله تعالى: ومن ذلك: أنه علق التحريم بمسمي الخمر وبيِّن أن الخمر هي المسكر في قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر وكل مسكر حرام)، ولم يفرق بين مسكر ومسكر. ومن ذلك: أنه علق الحكم بمسمي الإقامة، كما علقه بمسمي السفر، ولم يفرق بين مقيم ومقيم. فجعل المقيم نوعين: نوعا تجب عليه الجمعة بغيره ولا تنعقد به، ونوعا تنعقد به، لا أصل له. بل الواجب أن هذه الأحكام لما علقها الشارع بمسمي السفر فهي / تتعلق بكل سفر سواء كان ذلك السفر طويلا أو قصيرا. ولكن ثم أمور ليست من خصائص السفر بل تشرع في السفر والحضر. فإن المضطر إلى أكل الميتة لم يخص الله حكمه بسفر لكن الضرورة أكثر ما تقع به في السفر فهذا لا فرق فيه بين الحضر والسفر الطويل والقصير، فلا يجعل هذا معلقا بالسفر. وأما الجمع بين الصلاتين: فهل يجوز في السفر القصير؟ فيه وجهان في مذهب أحمد: أحدهما: لا يجوز كمذهب الشافعي قياسا على القصر. والثاني: يجـوز كقول مالك؛ لأن ذلك شـرع في الحضر للمـرض والمطر، فصار كأكل الميتة إنما علته الحاجة لا السفر، وهذا هو الصواب، فإن الجمع بين الصلاتين ليس معلقا بالسفر وإنما يجوز للحاجة بخلاف القصر. وأما الصلاة على الراحلة: فقد ثبت في الصحيح بل استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلى على راحلته في السفر قبل أي وجه توجهت به ويوتر عليها غير أنه لا يصلى عليها المكتوبة . وهل يسوغ ذلك في الحضر؟ فيه قولان في مذهب أحمد وغيره. فإذا جوز في /الحضر، ففي القصر أولي. وأما إذا منع في الحضر فالفرق بينه وبين القصر والفطر يحتاج إلى دليل. المقام الثاني: حد السفر الذي علق الشارع به الفطر والقصر: وهذا مما اضطرب الناس فيه ،قيل: ثلاثة أيام. وقيل: يومين قاصدين. وقيل: أقل من ذلك. حتي قيل: ميل. والذين حـددوا ذلك بالمسافة منهم من قال: ثمانية وأربعون ميلاً. وقيل: ستة وأربعون، وقيل:خمسة وأربعون.وقيل: أربعون، وهذه أقوال عن مالك، وقد قال أبو محمد المقدسي: لا أعلم لما ذهب إليه الأئمة وجهًا. وهو كما قال ـ رحمه الله. فإن التحديد بذلك ليس ثابتًا بنص ولا إجماع ولا قياس. وعامـة هؤلاء يفرقون بين السفر الطويل والقصير، ويجعلون ذلك حدًا للسفر الطويل. ومنهم من لا يسمي سفرًا إلا ما بلغ هذا الحد وما دون ذلك لا يسميه سفرًا. فالذين قالوا: ثلاثة أيام احتجوا بقوله:(يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن). وقد ثبت عنه في الصحيحين: أنه قال: (لا تسافر امرأة مسيرة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم). وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه / قال: (مسيرة يومين). وثبت في الصحيح: (مسيرة يوم). وفي السنن: (بريدًا)، فدل على أن ذلك كله سفر، وإذنه له في المسح ثلاثة أيام، إنما هو تجويز لمن سافر ذلك، وهو لا يقتضي أن ذلك أقل السفر، كما أذن للمقيم أن يمسح يومًا وليلة. وهو لا يقتضي أن ذلك أقل الإقامة. والذين قالوا: يومين اعتمدوا على قول ابن عمر وابن عباس.والخلاف في ذلك مشهور عـن الصحابة حتي عـن ابن عمر وابن عباس. وما روي: (يا أهل مكة، لا تقصروا في أقل من أربعـة برد من مكة إلى عسفان)، إنما هو من قول ابن عباس. ورواية ابن خزيمة. وغـيره له مرفـوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم باطل بلا شك عند أئمة أهل الحديث. وكيف يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم أهـل مكـة بالتحـديد وإنما أقام بعد الهجرة زمنًا يسيرًا، وهو بالمدينة لا يحد لأهلها حدًا كما حده لأهل مكة، وما بال التحديد يكون لأهل مكة دون غيرهم من المسلمين. وأيضًا، فالتحديد بالأميال والفراسخ يحتاج إلى معرفة مقدار مساحة الأرض، وهذا أمر لا يعلمه إلا خاصة الناس. ومن ذكره فإنما يخبر به عن غيره تقليدًا وليس هو مما يقطع به، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقدر الأرض بمساحة أصلاً، فكيف يقدر الشارع لأمته حدًا لم يجر / له ذكر في كلامه وهو مبعوث إلى جميع الناس، فلابد أن يكون مقدار السفر معلومًا علمًا عامًا، وذرع الأرض مما لا يمكن، بل هو إما متعذر، وإما متعسر؛ لأنه إذا أمكن الملوك ونحوهم مسح طريق، فإنما يمسحونه على خطٍ مستوٍ أو خطوط منحنية انحناء مضبوطًا ومعلوم أن المسافرين قد يعرفون غير تلك الطريق، وقد يسلكون غيرها، وقد يكون في المسافة صعود، وقد يطول سفر بعضهم لبطء حركته، ويقصر سفر بعضهم لسرعة حركته، والسبب الموجب هو نفس السفر لا نفس مساحة الأرض. والموجود في كلام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في تقدير الأرض بالأزمنة كقوله في الحوض: (طوله شهر وعرضه شهر). وقوله: (بين السماء والأرض خمسمائة سنة) . وفي حديث آخر: (إحدي أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة)، فقيل: الأول بالسير المعتاد سير الإبل والأقدام، والثاني سير البريد؛ فإنه في العادة يقطع بقدر المعتاد سبع مرات. وكذلك الصحابة يقولون: يوم تام ويومان؛ ولهذا قال من حده بثمانية وأربعين ميلاً: مسيرة يومين قاصدين بسير الإبل والأقدام، لكن هذا لا دليل عليه. وإذا كان كذلك فنقول: كل اسم ليس له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف،فما كان سفرًا في عرف الناس فهو / السفر الذي علق به الشارع الحكم، وذلك مثل سفر أهل مكة إلى عرفة؛ فإن هذه المسافة بريد، وهذا سفر ثبت فيه جواز القصر والجمع بالسنة؛ والبريد هو نصف يوم بسير الإبل والأقدام، وهو ربع مسافة يومين وليلتين، وهو الذي قد يسمي مسافة القصر، وهو الذي يمكن الذاهب اليها أن يرجع من يومه. وأما ما دون هذه المسافة ـ إن كانت مسافة القصر محدودة بالمساحة ـ فقد قيل: يقصر في ميل. وروي عن ابن عمر أنه قال: لو سافرت ميلاً لقصرت. قال ابن حزم: لم نجد أحدًا يقصر في أقل من ميل، ووجد ابن عمر وغيره يقصرون في هذا القدر، ولم يحد الشارع في السفر حدًا فقلنا بذلك اتباعًا للسنة المطلقة، ولم نجد أحدًا يقصر بما دون الميل. ولكن هو على أصله، وليس هذا إجماعًا. فإذا كان ظاهر النص يتناول ما دون ذلك، لم يضره ألا يعرف أحدًا ذهب إليه، كعادته في أمثاله. وأيضًا، فليس في قول ابن عمر أنه لا يقصر في أقل من ذلك. وأيضًا، فقد ثبت عن ابن عمر أنه كان لا يقصر في يوم أو يومين. فأما أن تتعارض أقواله، أو تحمل على اختلاف الأحوال. والكلام في مقامين: المقام الأول: أن من سافر مثل سفر أهل مكة إلى عرفات / يقصر. وأما إذا قيل: ليست محدودة بالمسافة بل الاعتبار بما هو سفر: فمن سافر ما يسمي سفرًا قصر وإلا فلا. وقد يركب الرجل فرسخا يخرج به لكشف أمر وتكون المسافة أميالاً ويرجع في ساعة أو ساعتين ولا يسمي مسافرًا، وقد يكون غيره في مثل تلك المسافة مسافرًا بأن يسير على الإبل والأقدام سيرًا لا يرجع فيه ذلك اليوم إلى مكانه. والدليل على ذلك من وجوه: أحدها: أنه قد ثبت بالنقل الصحيح المتفق عليه بين علماء أهل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان يقصر الصلاة بعرفة ومزدلفة وفي أيام مني. وكذلك أبو بكر، وعمر بعده، وكان يصلى خلفهم أهل مكة ولم يأمرهم بإتمام الصلاة، ولا نقل أحد لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل مكة ـ لما صلى بالمسلمين ببطن عرفة الظهر ركعتين قصرًا وجمعًا، ثم العصر ركعتين ـ : (يا أهل مكة، أتموا صلاتكم). ولا أمرهم بتأخير صلاة العصر، ولا نقل أحد أن أحدًا من الحجيج ـ لا أهل مكة ولا غيرهم ـ صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ما صلى بجمهور المسلمين. أو نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أو عمر قال في هذا اليوم:(يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر)،فقد غلط،وإنما نقل أن / النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا في جوف مكة لأهل مكة عام الفتح. وقد ثبت أن عمر بن الخطاب قاله لأهل مكة لما صلى في جوف مكة. ومن المعلوم أنه لو كان أهل مكة قاموا فأتموا وصلوا أربعًا وفعلوا ذلك بعرفة ومزدلفة وبمني أيام مني، لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بالضرورة، بل لو أخروا صلاة العصر ثم قاموا دون سائر الحجاج فصلوها قصرًا، لنقل ذلك فكيف إذا أتموا الظهر أربعًا دون سائر المسلمين؟! وأيضًا، فإنهم إذا أخذوا في إتمام الظهر والنبي صلى الله عليه وسلم قد شرع في العصر، لكان إما أن ينتظرهم فيطيل القيام، وإما أن يفوتهم معه بعض العصر، بل أكثرها. فكيف إذا كانوا يتمون الصلوات؟ وهذا حجة على كل أحد، وهو على من يقول: إن أهل مكة جمعوا معه أظهر. وذلك أن العلماء تنازعوا في أهل مكة هل يقصرون ويجمعون بعرفة؟ على ثلاثة أقوال: فقيل: لا يقصرون ولا يجمعون. وهذا هو المشهور عند أصحاب الشافعي، وطائفة من أصحاب أحمد: كالقاضي في [المجرد] وابن عقيل في [الفصول] لاعتقادهم أن ذلك معلق بالسفر الطويل، وهذا قصير. /والثاني: أنهم يجمعون ولا يقصرون، وهذا مذهب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب أحمد ومن أصحاب الشافعي، والمنقولات عن أحمد توافق هذا؛ فإنه أجاب في غير موضع بأنهم لا يقصرون. ولم يقل: لا يجمعون، وهذا هو الذي رجحه أبو محمد المقدسي في الجمع وأحسن في ذلك. والثالث: أنهم يجمعون ويقصرون، وهذا مذهب مالك، وإسحاق بن راهويه، وهو قول طاووس، وابن عيينة، وغيرهما من السلف. وقول طائفة من أصحاب أحمد والشافعي: كأبي الخطاب في [العبادات الخمس]. وهو الذي رجحه أبو محمد المقدسي وغيره من أصحاب أحمد، فإن أبا محمد وموافقيه رجحوا الجمع للمكي بعرفة. وأما [القصر]: فقال أبو محمد: الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه. والمعلوم أن الإجماع لم ينعقد على خلافه، وهو اختيار طائفة من علماء أصحاب أحمد: كان بعضهم يقصر الصلاة في مسيرة بريد، وهذا هو الصواب الذي لا يجوز القول بخلافه لمن تبين السنة وتدبرها. فإن من تأمل الأحاديث في حجة الوداع وسياقها، علم علمًا يقينًا أن الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم من أهل مكة وغيرهم صلوا بصلاته قصرًا وجمعًا، ولم يفعلوا خلاف ذلك. ولم ينقل أحد قط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ـ لا بعرفة ولا / مزدلفة ولا منى ـ : [يا أهل مكة، أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر). وإنما نقل أنه قال ذلك في نفس مكة كما رواه أهل السنن عنه، وقوله ذلك في داخل مكة دون عرفة ومزدلفة ومني، دليل على الفرق. وقد روي من جهة أهل العراق عن عمر أنه كان يقول بمني: يا أهل مكة، أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر. وليس له إسناد. وإذا ثبت ذلك فالجمع بين الصلاتين قد يقال: إنه لأجل النسك، كما تقوله الحنفية، وطائفة من أصحاب أحمد. وهو مقتضي نصه؛ فإنه يمنع المكي من القصر بعرفة ولم يمنعه من الجمع. وقال في جمع المسافر: إنه يجمع في الطويل كالقصر عنده، وإذا قيل: الجمع لأجل النسك، ففيه قولان: أحدهما: لا يجمع إلا بعرفة ومزدلفة كما تقوله الحنفية. والثاني: أنه يجمع لغير ذلك من الأسباب المقتضية للجمع وإن لم يكن سفرًا، وهو مذهب الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد. وقد يقال: لأن ذلك سفر قصير، وهو يجوز الجمع في السفر القصير، كما قال هذا وهذا بعض الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، فإن الجمع لا يختص بالسفر، والنبي صلى الله عليه وسلم لم / يجمع في حجته إلا بعرفة ومزدلفة،ولم يجمع بمني،ولا في ذهابه وإيابه، ولكن جمع قبل ذلك في غزوة تبوك، والصحيح أنه لم يجمع بعرفة لمجرد السفر، كما قصر للسفر، بل لاشتغاله باتصال الوقوف عن النزول، ولاشتغاله بالمسير إلى مزدلفة، وكان جمع عرفة لأجل العبادة، وجمع مزدلفة لأجل السير الذي جد فيه وهو سيره إلى مزدلفة، وكذلك كان يصنع في سفره. كان إذا جد به السير أخر الأولي إلى وقت الثانية، ثم ينزل فيصليهما جميعًا، كما فعل بمزدلفة. وليس في شريعته ما هو خارج عن القياس، بل الجمع الذي جمعه هناك يشرع أن يفعل نظيره، كما يقوله الأكثرون. ولكن أبو حنيفة يقول: هو خارج عن القياس. وقد علم أن تخصيص العلة إذا لم تكن لفوات شرط أو وجود مانع، دل على فسادها، وليس فيما جاء من عند الله اختلاف ولا تناقض، بل حكم الشيء حكم مثله، والحكم إذا ثبت بعلة ثبت بنظيرها. وأما القصر: فلا ريب أنه من خصائص السفر، ولا تعلق له بالنسك، ولا مسوغ لقصر أهل مكة بعرفة وغيرها إلا أنهم بسفر، وعرفة تبعد عن المسجد بريد، كما ذكره الذين مسحوا ذلك، وذكره الأزرقي في [أخبار مكة]. فهذا قصر في سفر قدره بريد، وهم لما رجعوا إلى منى كانوا في الرجوع من السفر، وإنما كان غاية قصدهم / بريدًا، وأي فرق بين سفر أهل مكة إلى عرفة وبين سفر سائر المسلمين إلى قدر ذلك من بلادهم؟! والله لم يرخص في الصلاة ركعتين إلا لمسافر، فعلم أنهم كانوا مسافرين، والمقيم إذا اقتدي بمسافر، فإنه يصلى أربعًا. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة في مكة: (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر). وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء، ولكن في مذهب مالك نزاع. الدليل الثاني: أنه قد نهي أن تسافر المرأة إلا مع ذي محرم أو زوج: تارة يقدِّر. وتارة يطلق. وأقل ما روي في التقدير: بريد، فدل ذلك على أن البريد يكون سفرًا. كما أن الثلاثة الأيام تكون سفرًا، واليومين تكون سفرًا، واليوم يكون سفرًا. هذه الأحاديث ليس لها مفهوم، بل نهي عن هذا وهذا وهذا. الدليل الثالث: أن السفر لم يحده الشارع. وليس له حد في اللغة، فرجع فيه إلى ما يعرفه الناس ويعتادونه، فما كان عندهم سفرًا فهو سفر والمسافر يريد أن يذهب إلى مقصده ويعود إلى وطنه، وأقل ذلك مرحلة يذهب في نصفها ويرجع في نصفها، وهذا هو البريد وقد حدوا بهذه المسافة [الشهادة على الشهادة]، وكتاب [القاضي إلى القاضي]، و[العدو على الخصم]، و[الحضانة]، وغير ذلك مما هو معروف في موضعه. وهو أحد القولين في مذهب أحمد. فلو كانت المسافة محدودة،/ لكان حدها بالبريد أجود، لكن الصواب أن السفر ليس محددًا بمسافة؛ بل يختلف فيكون مسافرًا في مسافة بريد، وقد يقطع أكثر من ذلك ولا يكون مسافرًا. الدليل الرابع: أن المسافر رخص الله له أن يفطر في رمضان، وأقل الفطر يوم، ومسافة البريد يذهب اليها ويرجع في يوم، فيحتاج إلى الفطر في شهر رمضان، ويحتاج أن يقصر الصلاة؛ بخلاف ما دون ذلك، فإنه قد لا يحتاج فيه إلى قصر ولا فطر إذا سافر أول النهار ورجع قبل الزوال. وإذا كان غدوه يومًا ورواحه يومًا، فإنه يحتاج إلى القصر والفطر، وهذا قد يقتضي أنه قد يرخص له أن يقصر ويفطر في بريد، وإن كان قد لا يرخص له في أكثر منه إذا لم يعد مسافرًا. الدليل الخامس: أنه ليس تحديد من حد المسافة بثلاثة أيام بأولي ممن حدها بيومين، ولا اليومان بأولي من يوم، فوجب ألا يكون لها حد، بل كل ما يسمي سفرًا يشرع. وقد ثبت بالسنة القصر في مسافة بريد، فعلم أن في الأسفار ما قد يكون بريدًا، وأدني ما يسمي سفرًا في كلام الشارع البريد. وأما ما دون البريد كالميل، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي / صلى الله عليه وسلم: أنه كان يأتي قباء كل سبت، وكان يأتيه راكبًا وماشيا. ولا ريب أن أهل قباء وغيرهم من أهل العوالي كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ولم يقصر الصلاة هو ولا هم، وقد كانوا يأتون الجمعة من نحو ميل وفرسخ، ولا يقصرون الصلاة، والجمعة على من سمع النداء، والنداء قد يسمع من فرسخ، وليس كل من وجبت عليه الجمعة أبيح له القصر، والعوالي بعضها من المدينة، وإن كان اسم المدينة يتناول جميع المساكن، كما قال تعالى: وأما ما نقل عن ابن عمر فينظر فيه هل هو ثابت أم لا؟ فإن ثبت، فالرواية عنه مختلفة. وقد خالفه غيره من الصحابة، ولعله أراد: إذا قطعت من المسافة ميلاً، ولا ريب أن قباء من المدينة أكثر من ميل، وما كان ابن عمر ولا غيره يقصرون الصلاة إذا ذهبوا إلى قباء. فقصر أهل مكة الصلاة بعرفة وعدم قصر أهل المدينة الصلاة إلى قباء ونحوها مما حول المدينة دليل على الفرق. والله أعلم. والصلاة على الراحلة إذا كانت مختصة بالسفر لا تفعل إلا فيما يسمي سفرًا؛ ولهذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصلى على راحلته في / خروجه إلى مسجد قباء، مع أنه كان يذهب إليه راكبًا وماشيا، ولا كان المسلمون الداخلون من العوالي يفعلون ذلك، وهذا لأن هذه المسافة قريبة، كالمسافة في المصر. واسم [المدينة]، يتناول المساكن كلها، فلم يكن هناك إلا أهل المدينة والأعراب، كما دل عليه القرآن. فمن لم يكن من الأعراب، كان من أهل المدينة. وحينئذ، فيكون مسيرة إلى قباء كأنه في المدينة، فلو سوغ ذلك، سوغت الصلاة في المصر على الراحلة، وإلا فلا فرق بينهما. والنبي صلى الله عليه وسلم لما كان يصلى بأصحابه جمعًا وقصرًا، لم يكن يأمر أحدًا منهم بنية الجمع والقصر، بل خرج من المدينة إلى مكة يصلى ركعتين من غير جمع، ثم صلى بهم الظهر بعرفة ولم يعلمهم أنه يريد أن يصلى العصر بعدها، ثم صلى بهم العصر، ولم يكونوا نووا الجمع، وهذا جمع تقديم. وكذلك لما خرج من المدينة صلى بهم بذي الحليفة العصر ركعتين، ولم يأمرهم بنية قصر، وفي الصحيح: أنه لما صلى إحدي صلاتي العشي وسلم من اثنتين قال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: (لم أنس ولم تقصر). قال: بلي قد نسيت قال: (أكما يقول ذو اليدين؟) قالوا: نعم فأتم الصلاة، ولو كان القصر لا يجوز إلا إذا نووه لبين ذلك، ولكانوا يعلمون ذلك. والإمام أحمد لم ينقل عنه ـ فيما أعلم ـ أنه اشترط النية في جمع ولا / قصر؛ ولكن ذكره طائفة من أصحابه كالخرقي والقاضي. وأما أبو بكر عبد العزيز وغيره فقالوا: إنما يوافق مطلق نصوصه. وقالوا: لا يشترط للجمع ولا للقصر نية، وهو قول الجمهور من العلماء: كمالك، وأبي حنيفة، وغيرهما، بل قد نص أحمد على أن المسافر له أن يصلى العشاء قبل مغيب الشفق، وعلل ذلك بأنـه يجـوز له الجمع، كما نقله عنـه أبو طالب والمروذي، وذكر ذلك القاضي في الجامع الكبير، فعلم أنه لا يشترط في الجمع نية. ولا تشترط ـ أيضًا ـ المقارنة فإنه لما أباح أن تصلى العشاء قبل مغيب الشفق وعلله بأنه يجوز له الجمع، لم يجز أن يراد به الشفق الأبيض، لأن مذهبه المتواتر عنه أن المسافر يصلى العشاء بعد مغيب الشفق الأحمر، وهو أول وقتها عنده. وحينئذ، يخرج وقت المغرب عنده، فلم يكن مصليا لها في وقت المغرب، بل في وقتها الخاص. وأما في الحضر فاستحب تأخيرها إلى أن يغيب الشفق الأبيض قال: لأن الحمرة قد تسترها الحيطان فيظن أن الأحمر قد غاب ولم يغب. فإذا غاب البياض تيقن مغيب الحمرة. فالشفق عنده في الموضعين الحمرة، لكن لما كان الشك في الحضر لاستتار الشفق بالحيطان احتاط بدخول الأبيض. فهذا مذهبه المتواتر من نصوصه الكثيرة. /وقد حكي بعضهم رواية عنه أن الشفق في الحضر الأبيض وفي السفر الأحمر. وهذه الرواية حقيقتها كما تقدم، وإلا فلم يقل أحمد ولا غيره من علماء المسلمين: إن الشفق في نفس الأمر يختلف بالحضر والسفر. وأحمد قد علل الفرق. فلو حكي عنه لفظ مجمل، كان المفسر من كلامه يبينه. وقد حكي بعضهم رواية عنه أن الشفق مطلق البياض. وما أظن هذا إلا غلطًا عليه. وإذا كان مذهبه أن أول الشفق إذا غاب في السفر خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء ـ وهو يجوز للمسافر أن يصلى العشاء قبل مغيب الشفق وعلل ذلك بأنه يجوز له الجمع ـ علم أنه صلاها قبل مغيبها لا بعد مغيب الأحمر فإنه ـ حينئذٍ ـ لا يجوز التعليل بجواز الجمع. الثاني: أن ذلك من كلامه يدل على أن الجمع عنده هو الجمع في الوقت وإن لم يصل إحداهما بالأخري، كالجمع في وقت الثانية على المشهور من مذهبه ومذهب غيره، وأنه إذا صلى المغرب في أول وقتها والعشاء في آخر وقت المغرب ـ حيث يجوز له الجمع ـ جاز ذلك وقد نص ـ أيضًا ـ على نظير هذا فقال: إذا صلى إحدي صلاتي الجمع في بيته والأخري في المسجد، فلا بأس. وهذا نص منه على أن الجمع هو جمع في الوقت لا تشترط فيه المواصلة، وقد تأول ذلك بعض أصحابه على قرب ال فصل، وهو خلاف النص. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم / لما صلى بهم بالمدينة ثمانيا جميعًا وسبعًا جميعًا، لم ينقل أنه أمرهم ابتداء بالنية، ولا السلف بعده. وهذا قول الجمهور: كأبي حنيفة ومالك وغيرهما، وهو في القصر مبني على فرض المسافر. فصارت الأقوال للعلماء في اقتران الفعل ثلاثة: أحدها: أنه لا يجب الاقتران لا في وقت الأولي ولا الثانية، كما قد نص عليه أحمد كما ذكرناه في السفر وجمع المطر. والثاني: أنه يجب الاقتران في وقت الأولي دون الثانية، وهذا هو المشهور عند أكثر أصحابه المتأخرين، وهو ظاهر مذهب الشافعي. فإن كان الجمع في وقت الأولي، اشترط الجمع. وإن كان في وقت الآخرة، فإنه يصلى الأولي في وقت الثانية. وأما الثانية: فيصليها في وقتها، فتصح صلاته لها وإن أخرها، ولا يأثم بالتأخير. وعلى هذا، تشترط الموالاة في وقت الأولي، دون الثانية. والثالث: تشترط الموالاة في الموضعين، كما يشترط الترتيب، وهذا وجه في مذهب الشافعي وأحمد. ومعني ذلك: أنه إذا صلى الأولي وأخر الثانية، أَثِمَ. وإن كانت وقعت صحيحة؛ لأنه لم يكن له إذا أخر الأولي إلا أن يصلى الثانية معها، فإذا لم يفعل ذلك، كان بمنزلة من / أخرها إلى وقت الضرورة، ويكون قد صلاها في وقتها مع الإثم. والصحيح أنه لا تشترط الموالاة بحال لا في وقت الأولي، ولا في وقت الثانية، فإنه ليس لذلك حد في الشرع، ولأن مراعاة ذلك يسقط مقصود الرخصة، وهو شبيه بقول من حمل الجمع على الجمع بالفعل وهو أن يسلم من الأولي في آخر وقتها ويحرم بالثانية في أول وقتها كما تأول جمعه على ذلك طائفة من العلماء أصحاب أبي حنيفة وغيرهم. ومراعاة هذا من أصعب الأشياء وأشقها؛ فإنه يريد أن يبتدئ فيها إذا بقي من الوقت مقدار أربع ركعات أو ثلاث في المغرب، ويريد مع ذلك ألا يطيلها. وإن كان بنية الإطالة تشرع في الوقت الذي يحتمل ذلك، وإذا دخل في الصلاة ثم بدا له أن يطيلها أو أن ينتظر أحدًا ليحصل الركوع والجماعة، لم يشرع ذلك، ويجتهد في أن يسلم قبل خروج الوقت. ومعلوم أن مراعاة هذا من أصعب الاشياء علمًا وعملاً، وهو يشغل قلب المصلى عن مقصود الصلاة، والجمع شرع رخصة ودفعا للحرج عن الأمة، فكيف لا يشرع إلا مع حرج شديد ومع ما ينقض مقصود الصلاة. فعلم أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء، يفعل ذلك على الوجه الذي يحصل به التيسير ورفع الحرج له ولأمته، ولا يلتزم أنه لا يسلم من الأولي إلا / قبل خروج وقتها الخاص، وكيف يعلم ذلك المصلى في الصلاة وآخر وقت الظهر وأول وقت العصر إنما يعرف على سبيل التحديد بالظل، والمصلى في الصلاة لا يمكنه معرفة الظل ولم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم آلات حسابية يعرف بها الوقت، ولا موقت يعرف ذلك بالآلات الحسابية، والمغرب إنما يعرف آخر وقتها بمغيب الشفق، فيحتاج أن ينظر إلى جهة الغرب هل غرب الشفق الأحمر أو الأبيض، والمصلى في الصلاة منهي عن مثل ذلك. وإذا كان يصلى في بيت أو فسطاط أو نحو ذلك مما يستره عن الغرب ويتعذر عليه في الصلاة النظر إلى المغرب، فلا يمكنه في هذه الحال أن يتحري السلام في آخر وقت المغرب، بل لابد أن يسلم قبل خروج الوقت بزمن يعلم أنه معه يسلم قبل خروج الوقت. ثم الثانية لا يمكنه ـ على قولهم ـ أن يشرع فيها حتي يعلم دخول الوقت، وذلك يحتاج إلى عمل وكلفة مما لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يراعيه، بل ولا أصحابه، فهؤلاء لا يمكن الجمع على قولهم في غالب الأوقات لغالب الناس إلا مع تفريق الفعل. وأولئك لا يكون الجمع عندهم إلا مع اقتران الفعل، وهؤلاء فهموا من الجمع اقتران الفعلين في وقت واحد أو وقتين، وأولئك قالوا: لا يكون / الجمع إلا في وقتين، وذلك يحتاج إلى تفريق الفعل، وكلا القولين ضعيف. والسنة جاءت بأوسع من هذا وهذا، ولم تكلف الناس لا هذا ولا هذا، والجمع جائز في الوقت المشترك. فتارة يجمع في أول الوقت كما جمع بعرفة. وتارة يجمع في وقت الثانية كما جمع بمزدلفة، وفي بعض أسفاره. وتارة يجمع فيما بينهما في وسط الوقتين، وقد يقعان معًا في آخر وقت الأولي،وقد يقعان معًا في أول وقت الثانية، وقد تقع هذه في هذا وهذه في هذا، وكل هذا جائز؛ لأن أصل هذه المسألة أن الوقت عند الحاجة مشترك، والتقديم والتوسط بحسب الحاجة والمصلحة. ففي عرفة ونحوها يكون التقديم هو السنة. وكذلك جمع المطر: السنة أن يجمع للمطر في وقت المغرب، حتي اختلف مذهب أحمد:هل يجوز أن يجمع للمطر في وقت الثانية؟ على وجهين. وقيل: إن ظاهر كلامه أنه لا يجمع، وفيه وجه ثالث: أن الأفضل التأخير، وهو غلط مخالف للسنة والإجماع القديم. وصاحب هذا القول ظن أن التأخير في الجمع أفضل مطلقًا؛ لأن الصلاة يجوز فعلها بعد الوقت عند النوم والنسيان، ولا يجوز فعلها قبل الوقت بحال، بل لو صلاها قبل الزوال وقبل الفجر، أعادها، وهذا غلط. فإن الجمع بمزدلفة إنما المشروع فيه تأخير المغرب إلى / وقت العشاء بالسنة المتواترة واتفاق المسلمين، وما علمت أحدًا من العلماء سوغ له هناك أن يصلى العشاء في طريقه، وإنما اختلفوا في المغرب هل له أن يصليها في طريقه على قولين. وأما التأخير: فهو كالتقديم، بل صاحبه أحق بالذم. ومن نام عن صلاة أو نسيها، فإن وقتها في حقه حين يستيقظ ويذكرها. وحينئذ، هو مأمور بها، لا وقت لها إلا ذلك، فلم يصلها إلا في وقتها. وأما من صلى قبل الزوال وطلوع الفجر الذي يحصل به، فإن كان متعمدًا، فهذا فعل ما لم يؤمر به، وأما إن كان عاجزًا عن معرفة الوقت، كالمحبوس الذي لا يمكنه معرفة الوقت، هذا في إجزائه قولان للعلماء، وكذلك في صيامه إذا صام حيث لا يمكنه معرفة شهور رمضان كالأسير إذا صام بالتحري ثم تبين له أنه قبل الوقت، ففي إجزائه قولان للعلماء، وأما من صلى في المصر قبل الوقت غلطًا، فهذا لم يفعل ما أمر به، وهل تنعقد صلاته نفلاً، أو تقع باطلة؟ على وجهين في مذهب أحمد وغيره. والمقصود أن الله لم يبح لأحد أن يؤخر الصلاة عن وقتها بحال، كما لم يبح له أن يفعلها قبل وقتها بحال، فليس جمع التأخير بأولي من جمع التقديم، بل ذاك بحسب الحاجة والمصلحة، فقد يكون هذا أفضل، وقد يكون هذا أفضل، وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو / ظاهر مذهب أحمد المنصوص عنه وغيره. ومن أطلق من أصحابه القول بتفضيل أحدهما مطلقًا، فقد أخطأ على مذهبه. وأحاديث الجمع الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم مأثورة من حديث ابن عمر وابن عباس وأنس ومعاذ وأبي هريرة وجابر، وقد تأول هذه الأحاديث من أنكر الجمع على تأخير الأولي إلى آخر وقتها، وتقديم الثانية إلى أول وقتها. وقد جاءت الروايات الصحيحة بأن الجمع كان يكون في وقت الثانية وفي وقت الأولي، وجاء الجمع مطلقًا، والمفسر يبين المطلق. ففي الصحيحين من حديث سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء. وروي مالك عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عجل به السير، جمع بين المغرب والعشاء. رواه مسلم. وروي مسلم من حديث يحيي بن سعيد: حدثنا عبيد الله، أخبرني نافع عن ابن عمر أنه كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق، ويذكر:) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السيرجمع بين المغرب والعشاء(. قال الطحاوي: حديث ابن عمر إنما فيه الجمع بعد مغيب الشفق من فعله، وذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع بين الصلاتين / ولم يذكر كيف كان جمعه؛ وهذا إنما فيه التأخير من فعل ابن عمر، لا فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر المثبتون ما رواه محمد بن يحيي الذهلي، حدثنا حماد بن مسعدة، عن عبيد اللّه بن عمر، عن نافع، أن عبد اللّه بن عمر أسرع السير فجمع بين المغرب والعشاء، فسألت نافعا فقال: بعد ما غاب الشفق بساعة، وقال: إني رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك إذا جد به السير، ورواه سليمان بن حرب، حدثنا حماد ابن زيد، عن أيوب، عن نافع: أن ابن عمر استصرخ على صفية بنت أبي عبيد ـ وهو بمكة وهي بالمدينة ـ فأقبل فسار حتى غربت الشمس وبدت النجوم، فقال رجل كان يصحبه: الصلاة الصلاة، فسار ابن عمر، فقال له سالم: الصلاة، فقال: إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان إذا عجل به أمر في سفر جمع بين هاتين الصلاتين. فسار حتى إذا غاب الشفق، جمع بينهما، وسار ما بين مكة والمدينة ثلاثا. وروى البيهقي هذين بإسناد صحيح مشهور، قال: ورواه معمر عن أيوب وموسي بن عقبة عن نافع، وقال في الحديث: فأخر المغرب بعد ذلك الشفق حتى ذهب هوي من الليل، ثم نزل فصلى المغرب والعشاء، قال: وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك إذا جد به السير أو حزبه أمر. قال: ورواه يزيد بن هارون، عن يحيي / بن سعيد الأنصاري، عن نافع، فذكر أنه سار قريباً من ربع الليل ثم نزل فصلى. ورواه من طريق الدارقطني: حدثنا ابن صاعد والنيسابوري، حدثنا العباس بن الوليد بن يزيد، أخبرني عمر بن محمد بن زيد، حدثني نافع مولي عبد اللّه بن عمر، عن ابن عمر: أنه أقبل من مكة وجاءه خبر صفية بنت أبي عبيد فأسرع السير، فلما غابت الشمس قال له إنسان من أصحابه: الصلاة، فسكت، ثم سار ساعة فقال له صاحبه: الصلاة، فقال: الذي قال له [الصلاة]: إنه ليعلم من هذا علماً لا أعلمه، فسار حتى إذا كان بعد ما غاب الشفق بساعة، نزل فأقام الصلاة، وكان لا ينادي لشيء من الصلاة في السفر، فأقام، فصلى المغرب والعشاء جميعاً، جمع بينهما، ثم قال: إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق بساعة، وكان يصلي على ظهر راحلته أين توجهت بـه السبحـة في السفــر. ويخـبر أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يصنع ذلك. قال البيهقي: اتفقت رواية يحيي بن سعيد الأنصاري، وموسي بن عقبة، وعبيد اللّه ابن عمر، وأيوب السَّخْتِياني، وعمر بن محمد بن زيد: على أن جمع عبد اللّه بن عمر بين الصلاتين بعد غيبوبة الشفق، وخالفهم من لا يدانيهم في حفظ أحاديث نافع، وذكر أن ابن جابر رواه عن نافع / ولفظه: حتى إذا كان في آخر الشفق نزل فصلى المغرب، ثم أقام الصلاة وقد تواري الشفق فصلى بنا، ثم أقبل علينا فقال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا عجل به الأمر صنع هكذا. وقال: وبمعناه رواه فضيل بن غزوان وعَطَّاف بن خالد عن نافع، ورواية الحفاظ من أصحاب نافع أولى بالصواب. فقد رواه سالم بن عبد اللّه، وأسلم مولي عمر، وعبد اللّه بن دينار، وإسماعيل بن عبد الرحمن بن ذؤيب: عن ابن عمر نحو روايتهم. أما حديث سالم: فرواه عاصم بن محمد، عن أخيه عمر بن محمد عن سالم. وأما حديث أسلم: فأسنده من حديث ابن أبي مريم: أنا محمد بن جعفر، أخبرني زيد بن أسلم عن أبيه قال: كنت مع ابن عمر فبلغه عن صفية شدة وجع، فأسرع السير حتى إذا كان بعد غروب الشفق نزل فصلى المغرب والعتمة جمع بينهما وقال: إني رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا جد به السير، أخر المغرب وجمع بينهما. رواه البخاري في صحيحه عن ابن أبي مريم. وأسند ـ أيضاً ـ من كتاب يعقوب بن سفيان، أنا أبو صالح وابن بكير، قالا: حدثنا الليث قال: قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: حدثني عبد اللّه بن دينار ـ وكان من صالحي المسلمين صدقا ودينا ـ قال: غابت الشمس ونحن مع عبد اللّه بن عمر فسرنا. فلما رأيناه قد أمسي قلنا له: الصلاة، فسكت حتى غاب الشفق وتصوبت النجوم فنزل فصلى الصلاتين جميعاً ثم قال:/ رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا جد به السير، صلي صلاتي هذه، يقول جمع بينهما بعد ليل. وأما حديث إسماعيل بن عبد الرحمن: فأسند من طريق الشافعي وأبي نعيم عن ابن عيينة عن أبي نَجِيح عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن ذؤيب قال: صحبت ابن عمر فلما غابت الشمس، هِبْنَا أن نقول له: قم إلى الصلاة، فلما ذهب بياض الأفق وفحمة العشاء، نزل فصلى ثلاث ركعات وركعتين ثم التفت إلينا فقال: هكذا رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يفعل. وأما حديث أنس: ففي الصحيحين عن ابن شهاب عن أنس قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما. فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل، صلي الظهر ثم ركب. هذا لفظ الفعل عن عقيل عنه. ورواه مسلم من حديث ابن وهب: حدثني جابر بن إسماعيل عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس، عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا عجل به السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق. ورواه مسلم من حديث شبابة: حدثنا الليث بن سعد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم / إذا أراد أن يجمع بين الظهر والعصر في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما، ورواه من حديث الإسماعيلي، أنا الفِرْيابي، أنا إسحق بن راهويه، أنا شبابة بن سوار، عن ليث، عن عقيل، عن أنس: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا كان في السفر فزالت الشمس، صلي الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل. قلت: هكذا في هذه الرواية، وهي مخالفة للمشهور من حديث أنس. وأما حديث معاذ: فمن أفراد مسلم. رواه من حديث مالك وزهير بن معاوية وقُرَّة بن خالد، وهذا لفظ مالك، عن أبي الزبير المكي، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة: أن معاذ ابن جبل أخبرهم: أنهم خرجوا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأخر الصلاة يوما، ثم خرج فصلى الظهر والعصر، ثم دخل، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء. قلت: الجمع على ثلاث درجات: أما إذا كان سائراً في وقت الأولى: فإنما ينزل في وقت الثانية. فهذا هو الجمع الذي ثبت في الصحيحين من حديث أنس وابن عمر، وهو نظير جمع مزدلفة. وأما إذا كان وقت الثانية سائراً أو راكباً، فجمع في وقت الأولى، فهذا نظير الجمع بعرفة، وقد روى ذلك في السنن كما سنذكره ـ إن شاء اللّه. وأما إذا كان نازلا في وقتهما جميعاً نزولا مستمرا، فهذا ما علمت روى ما يستدل / به عليه إلا حديث معاذ هذا. فإن ظاهره أنه كان نازلاً في خيمة في السفر، وأنه أخر الظهر ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً، ثم دخل إلى بيته، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً. فإن الدخول والخروج إنما يكون في المنزل. وأما السائر فلا يقال: دخل وخرج، بل نزل وركب. وتبوك هي آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسافر بعدها إلى حجة الوداع. وما نقل أنه جمع فيها إلا بعرفة ومزدلفة، وأما بمنى فلم ينقل أحد أنه جمع هناك؛ بل نقلوا أنه كان يقصر الصلاة هناك، ولا نقلوا أنه كان يؤخر الأولى إلى آخر وقتها، ولا يقدم الثانية إلى أول وقتها، وهـذا دليـل على أنـه كان يجمـع أحياناً في السفـر وأحياناً لا يجمـع ـ وهـو الأغلب على أسفاره ـ: أنه لم يكن يجمع بينهما. وهذا يبين أن الجمع ليس من سنة السفر، كالقصر بل يفعل للحاجة، سواء كان في السفر أو الحضر، فإنه قد جمع ـ أيضاً ـ في الحضر لئلا يحرج أمته. فالمسافر إذا احتاج إلى الجمع جمع، سواء كان ذلك لسيره وقت الثانية، أو وقت الأولى وشق النزول عليه، أو كان مع نزوله لحاجة أخري، مثل أن يحتاج إلى النوم والاستراحة وقت الظهر، ووقت العشاء، فينزل وقت الظهر وهو تعبان، سهران، جائع، محتاج إلى راحة وأكل ونوم، فيؤخر الظهر إلى وقت العصر / ثم يحتاج أن يقدم العشاء مع المغرب وينام بعد ذلك ليستيقظ نصف الليل لسفره، فهذا ونحوه يباح له الجمع. وأما النازل أياماً في قرية أو مصر ـ وهو في ذلك كاهل المصر ـ فهذا ـ وإن كان يقصر لأنه مسافر ـ فلا يجمع، كما أنه لا يصلي على الراحلة ولا يصلي بالتيمم، ولا يأكل الميتة. فهذه الأمور أبيحت للحاجة، ولا حاجة به إلى ذلك، بخلاف القصر فإنه سنة صلاة السفر. والجمع في وقت الأولى كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة مأثور في السنن: مثل الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث المفضل بن فضالة، عن الليث بن سعد، عن هاشم بن سعد، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ بن جبل: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل، جمع بين الظهر والعصر، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخر الظهر حتى ينزل للعصر، وفي المغرب مثل ذلك: إن غابت الشمس قبل أن يرتحل، جمع بين المغرب والعشاء، وإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس، أخر المغرب حتى ينزل للعشاء، ثم نزل فجمع بينهما. قال الترمذي: حديث معاذ حديث حسن غريب. قلت: وقد رواه قتيبة، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب،/ عن أبي الطفيل. لكن أنكروه على قتيبة. قال البيهقي: تفرد به قتيبة عن الليث، وذكر عن البخاري قال: قلت لقتيبة: مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل؟ فقال: كتبته مع خالد المدائني. قال البخاري: وكان خالد هذا يدخل الأحاديث على الشيوخ. قال البيهقي: وإنما أنكروا من هذا رواية يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل. فأما رواية أبي الزبير، عن أبي الطفيل: فهي محفوظة صحيحة. قلت: وهذا الجمع الذي فسره هشام بن سعد، عن أبي الزبير ـ والذي ذكره مالك ـ يدخل في الجمع الذي أطلقه الثوري وغيره. فمن روى عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء عام تبوك. وهذا الجمع الأول ليس في المشهور من حديث أنس؛ لأن المسافر إذا ارتحل بعد زيغ الشمس، ولم ينزل وقت العصر، فهذا مما لا يحتاج إلى الجمع، بل يصلي العصر في وقتها، وقد يتصل سيره إلى الغروب: فهذا يحتاج إلى الجمع، بمنزلة جمع عرفة لما كان الوقوف متصلا إلى الغروب صلي العصر مع الظهر؛ إذ كان الجمع بحسب الحاجة. وبهذا تتفق أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يفرق بين متماثلين، ولم ينقل أحد عنه أنه جمع بمنى، / ولا بمكة عام الفتح، ولا في حجة الوداع، مع أنه أقام بها بضعة عشر يوما يقصر الصلاة، ولم يقل أحد: إنه جمع في حجته إلا بعرفة ومزدلفة فعلم أنه لم يكن جمعه لقصره. وقد روى الجمع في وقت الأولى في المصر من حديث ابن عباس ـ أيضاً ـ موافقة لحديث معاذ: ذكره أبو داود فقال: وروى هشام بن عروة، عن حسين بن عبد اللّه، عن كريب عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث الفضل. قلت: هذا الحديث معروف عن حسين، وحسين هذا ممن يعتبر بحديثه، ويستشهد به، ولا يعتمد عليه وحده. فقد تكلم فيه على بن المديني، والنسائي. ورواه البيهقي من حديث عثمان بن عمر، عن ابن جُرَيج، عن حسين، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان إذا زالت الشمس وهو في منزله، جمع بين الظهر والعصر، وإذا لم تزل حتى يرتحل سار حتى إذا دخل وقت العصر نزل فجمع الظهر والعصر، وإذا غابت الشمس وهو في منزله، جمع بين المغرب والعشاء، وإذا لم تغب حتى يرتحل سار حتى إذا أتت العتمة نزل فجمع بين المغرب والعشاء. قال البيهقي: ورواه حجاج بن محمد، عن ابن جُرَيج، أخبرني حسين، عن كريب، وكان حسين سمعه منهما جميعاً، واستشهد على ذلك برواية عبد الرزاق، عن ابن جُرَيج وهي معروفة، وقد رواها الدارقطني وغيره،/وهي من كتب عبد الرزاق. قال عبد الرزاق، عن ابن جُرَيج: حدثني حسين بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن عباس، عن عكرمة، وعن كُرَيب عن ابن عباس: أن ابن عباس قال: ألا أخبركم عن صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في السفر؟ قلنا: بلي. قال: كان إذا زاغت له الشمس في منزله، جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب. وإذا لم تزغ له في منزله، سار حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر. وإذا حانت له المغرب في منزله، جمع بينها وبين العشاء. وإذا لم تحن في منزله، ركب حتى إذا كانت العشاء نزل فجمع بينهما. قال الدارقطني: ورواه عبد المجيد بن عبد العزيز، عن ابن جُرَيج، عن هشام بن عروة عن حسين، عن كُرَيب. احتمل أن يكون ابن جريج سمعه أولا من هشام بن عروة عن حسين، كقول عبد المجيد عنه، ثم لقي ابن جريج حسيناً فسمعه منه، كقول عبد الرزاق وحجاج عن ابن جريج. قال البيهقي: وروى عن محمد بن عجلان ويزيد بن الهادي وأبي رويس المدني، عن حسين بن عبد اللّه، عن عكرمة، عن ابن عباس. وهو بما تقدم من شواهده يقوي؛ وذكر ما ذكره البخاري تعليقاً: حديث إبراهيم بن طَهمان، عن الحسين، عن يحيي بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر في السفر إذا كان على ظهر مسيره، وجمع بين المغرب والعشاء. أخرجه البخاري في صحيحه فقال: وقال /إبراهيم بن طَهمان فذكره. قلت قوله: (على ظهر مسيره) قد يراد به على ظهر سيره في وقت الأولى، وهذا مما لا ريب فيه. ويدخل فيه ما إذا كان على ظهر سيره في وقت الثانية، كما جاء صريحاً عن ابن عباس. قال البيهقي: وقد روى أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس: لا نعلمه إلا مرفوعا بمعني رواية الحسين، وذكر ما رواه إسماعيل بن إسحاق، ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد ابن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن ابن عباس، ولا أعلمه إلا مرفوعا وإلا فهو عن ابن عباس: أنه كان إذا نزل منزلا في السفر فأعجبه المنزل، أقام فيه حتى يجمع بين الظهر والعصر. قال إسماعيل: حدثنا عارم، حدثنا حماد فذكره. قال عارم: هكذا حدث به حماد، قال: كان إذا سافر فنزل منزلا فأعجبه المنزل، أقام فيه حتى يجمع بين الظهر والعصر، ورواه حماد بن سلمة عن أيوب من قول ابن عباس، قال إسماعيل: ثنا حجاج، عن حماد بن سلمة عن أيوب، عن أبي قلابة، عن ابن عباس قال: إذا كنتم سائرين فنبا بكم المنزل، فسيروا حتى تصيبوا تجمعون بينهما، وإن كنتم نزولا فعجل بكم أمر، فاجمعوا بينهما ثم ارتحلوا. قلت: فحديث ابن عباس في الجمع بالمدينة صحيح من مشاهير الصحاح كما سيأتي ـ إن شاء اللّه. /وأما حديث جابر ففي سنن أبي داود وغيره من حديث عبد العزيز بن محمد، عن أبي الزبير، عن جابر: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم غابت له الشمس بمكة فجمع بينهما بسَرِف. قال البيهقي: ورواه من حديث الحماني عن عبد العزيز، ورواه الأجلح عن أبي الزبير كذلك. قال أبو داود: حدثنا محمد بن هشام جار أحمد بن حنبل، حدثنا جعفر بن عون، عن هشام بن سعد، قال بينهما عشرة أميال، يعني بين مكة وسرف. قلت: عشرة أميال ثلاثة فراسخ وثلث، والبريد أربعة فراسخ، وهذه المسافة لا تقطع في السير الحثيث حتى يغيب الشفق، فإن الناس يسيرون من عرفة عقب المغرب ولا يصلون إلى جمع إلا وقد غاب الشفق ومن عرفة إلى مكة بريد، فجمع دون هذه المسافة وهم لا يصلون إليها إلا بعد غروب الشفق فكيف بسَرِف؟! وهذا يوافق حديث ابن عمر وأنس، وابن عباس: أنه إذا كان سائراً، أخر المغرب إلى أن يغرب الشفق، ثم يصليهما جميعاً. قال البيهقي: والجمع بين الصلاتين بعذر السفر من الأمور المشهورة المستعملة فيما بين الصحابة والتابعين، مع الثابت عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ثم عن أصحابه، ثم ما أجمع عليه المسلمون من جمع الناس بعرفة، ثم بالمزدلفة. وذكر ما رواه البخاري من حديث سعيد، /عن الزهري: أخبرني سالم، عن عبد اللّه بن عمر، قال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير في السفر، يؤخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء. قال سالم: وكان عبد اللّه بن عمر يفعل ذلك إذا أعجله السير في السفر يقيم صلاة المغرب فيصليها ثلاثاً ثم يسلم، ثم قلما يلبث حتى يقيم صلاة العشاء ويصليها ركعتين ثم يسلم، ولا يسبح بينهما بركعة، ولا يسبح بعد العشاء بسجدة حتى يقوم من جوف الليل. وروى مالك، عن يحيي بن سعيد: أنه قال لسالم بن عبد اللّه بن عمر: ما أشد ما رأيت أباك عبد اللّه بن عمر أخر المغرب في السفر؟ قال: غربت له الشمس بذات الجيش فصلاها بالعقيق. قال البيهقي: رواه الثوري عن يحيي بن سعيد، وزاد فيه: ثمانية أميال، ورواه ابن جُرَيج، عن يحيي بن سعيد، وزاد فيه قال: قلت: أي ساعة تلك؟ قال: قد ذهب ثلث الليل أو ربعه. قال: ورواه يزيد بن هارون، عن يحيي بن سعيد، عن نافع، قال: فسار أميالا ثم نزل فصلى. قال يحيي: وذكر لي نافع هذا الحديث مرة أخري، فقال: سار قريباً من ربع الليل، ثم نزل فصلى. وروى من مصنف سعيد بن أبي عَرُوبة،عن قتادة،عن جابر بن / زيد، عن ابن عباس: أنه كان يجمع بين الصلاتين في السفر، ويقول: هي سنة. ومن حديث على بن عاصم: أخبرني الجريري، وسلمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، قال: كان سعيد بن زيد وأسامة ابن زيد إذا عجل بهما السير، جمعا بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء. وروينا في ذلك عن سعد بن أبي وقاص وأنس بن مالك، وروى عن عمر وعثمان. وذكر ما ذكره مالك في الموطأ عن ابن شهاب أنه قال: سألت سالم بن عبد اللّه هل يجمع بين الظهر والعصر في السفر؟ فقال: نعم ! لا بأس بذلك، ألا تري إلى صلاة الناس بعرفة؟ وذكر في كتاب يعقوب بن سفيان، ثنا عبد الملك بن أبي سلمة، ثنا الدراوردي، عن زيد بن أسلم وربيعة بن أبي عبد الرحمن ومحمد بن المنكدر وأبي الزِّناد في أمثال لهم خرجوا إلى الوليد وكان أرسل إليهم يستفتيهم في شيء فكانوا يجمعون بين الظهر والعصر إذا زالت الشمس. قلت: فهذا استدلال من السلف بجمع عرفة على نظيره، وأن الحكم ليس مختصا، وهو جمع تقديم للحاجة في السفر. وأما الجمع بالمدينة لأجل المطر أو غيره، فقد روى مسلم وغيره من حديث أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: صلى / رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً من غير خوف ولا سفر. وممن رواه عن أبي الزبير مالك في موطأه، وقال: أظن ذلك كان في مطر. قال البيهقي: وكذلك رواه زهير بن معاوية، وحماد بن سلمة، عن أبي الزبير: في غير خوف ولا سفر. إلا أنهما لم يذكرا المغرب والعشاء، وقالا: بالمدينة. ورواه ـ أيضاً ـ ابن عيينة، وهشام بن سعد، عن أبي الزبير بمعني رواية مالك، وساق البيهقي طرقها. وحديث زهير رواه مسلم في صحيحه: ثنا أبو الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: صلي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعا بالمدينة في غير خوف ولا سفر. قال أبو الزبير: فسألت سعيداً: لم فعل ذلك؟ قال: سألت ابن عباس، كما سألتني، فقال: أراد ألا يحرج أحداً من أمته. قال: وقد خالفهم قرة في الحديث فقال: في سفرة سافرها إلى تبوك. وقد رواه مسلم من حديث قرة، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء. فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته. قال البيهقي: وكان قُرَّة أراد حديث أبي الزبير، عن أبي الطفيل / عن معاذ، فهذا لفظ حديثه. وروى سعيد بن جبير الحديثين جميعاً، فسمع قرة أحدهما، ومن تقدم ذكَّره الآخر. قال: وهذا أشبه. فقد روى قُرَّة حديث أبي الطفيل ـ أيضاً. قلت: وكذا رواه مسلم فروى هذا المتن من حديث معاذ، ومن حديث ابن عباس، فإن قُرَّة ثقة حافظ. وقد روى الطحاوي حديث قرة، عن أبي الزبير، فجعله مثل حديث مالك، عن أبي الزبير حديث أبي الطفيل، وحديثه هذا عن سعيد. فدل ذلك على أنا أبا الزبير حدث بهذا وبهذا. قال البيهقي: ورواه حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، فخالف أبا الزبير في متنه، وذكره من حديث الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس، قال: جمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر. قيل له: فما أراد بذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته. وفي رواية وكيع قال سعيد: قلت لابن عباس: لم فعل ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال: كي لا يحرج أمته. ورواه مسلم في صحيحه. قال البيهقي: ولم يخرجه البخاري مع كون حبيب بن أبي ثابت من شرطه، ولعله إنما أعرض عنه ـ واللّه أعلم ـ لما فيه من الاختلاف على سعيد بن جبير. قال: ورواية الجماعة عن أبي الزبير أولى أن / تكون محفوظة، فقد رواه عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس بقريب من معني رواية مالك، عن أبي الزبير. قلت: تقديم رواية أبي الزبير على رواية حبيب بن أبي ثابت لا وجه له. فإن حبيب بن أبي ثابت من رجال الصحيحين، فهو أحق بالتقديم من أبي الزبير، وأبو الزبير من أفراد مسلم. وأيضاً، فأبو الزبير اختلف عنه عن سعيد بن جبير في المتن: تارة يجعل ذلك في السفر، كما رواه عنه قُرَّة موافقة لحديث أبي الزبير عن أبي الطفيل، وتارة يجعل ذلك في المدينة، كما رواه الأكثرون عنه عن سعيد. فهذا أبو الزبير قد روى عنه ثلاثة أحاديث: حديث أبي الطفيل عن معاذ في جمع السفر، وحديث سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله. وحديث سعيد بن جبير، عن ابن عباس الذي فيه جمع المدينة. ثم قد جعلوا هذا كله صحيحا؛ لأن أبا الزبير حافظ، فلم لا يكون حديث حبيب بن أبي ثابت ـ أيضا ـ ثابتا عن سعيد بن جبير وحبيب أوثق من أبي الزبير؟ وسائر أحاديث ابن عباس الصحيحة تدل على ما رواه حبيب. فإن الجمع الذي ذكره ابن عباس لم يكن لأجل المطر. وأيضاً، فقوله: بالمدينة، يدل على أنه لم يكن في السفر، فقوله: جمع بالمدينة في غير خوف ولا مطر، أولى بأن يقال: من غير خوف ولا سفر، ومن قال: أظنه في المطر، فظن ظنه ليس هو في الحديث، بل مع / حفظ الرواة، فالجمع صحيح، قال: من غير خوف ولا مطر. وقال: ولا سفر. والجمع الذي ذكره ابن عباس لم يكن بهذا ولا بهذا. وبهذا استدل أحمد به على الجمع لهذه الأمور بطريق الأولى. فإن هذا الكلام يدل على أن الجمع لهذه الأمور أولى، وهذا من باب التنبيه بالفعل. فإنه إذا جمع ليرفع الحرج الحاصل بدون الخوف والمطر والسفر، فالحرج الحاصل بهذه أولى أن يرفع، والجمع لها أولى من الجمع لغيرها. ومما يبين أن ابن عباس لم يرد الجمع للمطر ـ وإن كان الجمع للمطر أولى بالجواز ـ بما رواه مسلم من حديث حماد بن زيد، عن الزبير بن الخِرِّيت، عن عبد اللّه بن شقيق، قال: خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، فجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة، قال: فجاء رجل من بني تيم لا يفتر: الصلاة، الصلاة، فقال: أتعلمني بالسنة لا أم لك ؟ ثم قال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال عبد اللّه بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته. ورواه مسلم ـ أيضا ـ من حديث عمران بن حُدَير، عن ابن شقيق قال: قال رجل لابن عباس: الصلاة، فسكت. ثم قال: الصلاة،/ فسكت. ثم قال: لا أم لك، أتعلمنا بالصلاة وكنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؟! فهذا ابن عباس لم يكن في سفر ولا في مطر، وقد استدل بما رواه على ما فعله، فعلم أن الجمع الذي رواه لم يكن في مطر، ولكن كان ابن عباس في أمر مهم من أمور المسلمين يخطبهم فيما يحتاجون إلى معرفته، ورأي أنه إن قطعه ونزل فاتت مصلحته، فكان ذلك عنده من الحاجات التي يجوز فيها الجمع. فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بالمدينة لغير خوف ولا مطر، بل للحاجة تعرض له كما قال: أراد ألا يحرج أمته. ومعلوم أن جمع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة لم يكن لخوف ولا مطر ولا لسفر ـ أيضا ـ فإنه لو كان جمعه للسفر، لجمع في الطريق، ولجمع بمكة، كما كان يقصر بها، ولجمع لما خرج من مكة إلى مني وصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ولم يجمع بمنى قبل التعريف، ولا جمع بها بعد التعريف أيام مني، بل يصلي كل صلاة ركعتين غير المغرب، ويصليها في وقتها، ولا جمعه ـ أيضاً ـ كان للنسك، فإنه لو كان كذلك، لجمع من حين أحرم، فإنه من حينئذ صار محرما، فعلم أن جمعه المتواتر بعرفة ومزدلفة لم يكن لمطر ولا خوف، ولا لخصوص النسك ولا لمجرد السفر، فهكذا جمعه بالمدينة الذي رواه ابن عباس، وإنما / كان الجمع لرفع الحرج عن أمته، فإذا احتاجوا إلى الجمع، جمعوا. قال البيهقي: ليس في رواية ابن شقيق، عن ابن عباس من هذين الوجهين الثابتين عنه نفي المطر، ولا نفي السفر، فهو محمول على أحدهما. أو على ما أوله عمرو بن دينار، وليس في روايتهما ما يمنع ذلك التأويل. فيقال: يا سبحان اللّه، ابن عباس كان يخطب بهم بالبصرة، فلم يكن مسافراً، ولم يكن هناك مطر، وهو ذكر جمعاً يحتج به على مثل ما فعله، فلو كان ذلك لسفر أو مطر كان ابن عباس أجل قدراً من أن يحتج على جمعه بجمع المطر أو السفر. وأيضا، فقد ثبت في الصحيحين عنه أن هذا الجمع كان بالمدينة، فكيف يقال: لم ينف السفر؟ وحبيب بن أبي ثابت من أوثق الناس، وقد روى عن سعيد أنه قال: من غير خوف ولا مطر. وأما قوله: إن البخاري لم يخرجه، فيقال: هذا من أضعف الحجج، فهو لم يخرج أحاديث أبي الزبير، وليس كل من كان من شرطه يخرجه. وأما قوله: ورواية عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء قريب من رواية أبي الزبير، فإنه ذكر ما أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد / بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلي بالمدينة سبعًا وثمانيا: الظهر والعصر والمغرب والعشاء. وفي رواية البخاري عن حماد بن زيد: فقال لأيوب: لعله في ليلة مطيرة؟ فقال: عسي. فيقال: هذا الظن من أيوب وعمرو، فالظن ليس من مالك. وسبب ذلك أن اللفظ الذي سمعوه لا ينفي المطر، فجوزوا أن يكون هو المراد، ولو سمعوا رواية حبيب بن أبي ثابت الثقة التثبت، لم يظنوا هذا الظن، ثم رواية ابن عباس هذه حكاية فعل مطلق، لم يذكر فيها نفي خوف ولا مطر، فهذا يدلك على أن ابن عباس كان قصده بيان جواز الجمع بالمدينة في الجملة، ليس مقصوده تعيين سبب واحد فمن قال: إنما أراد جمع المطر وحده فقد غلط عليه، ثم عمرو بن دينار تارة يجوز أن يكون للمطر موافقة لأيوب، وتارة يقول هو وأبو الشعثاء: إنه كان جمعاً في الوقتين، كما في الصحيحين عن ابن عيينة، عن عمرو ابن دينار: سمعت جابر بن زيد يقول: سمعت ابن عباس يقول: صليت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثمانياً جميعاً وسبعا جميعا.قال: قلت: يا أبا الشعثاء، أراه أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء، قال: وأنا أظن ذلك. فيقال: ليس الأمر كذلك؛ لأن ابن عباس كان أفقه وأعلم/ من أن يحتاج ـ إذا كان قد صلي كل صلاة في وقتها الذي تعرف العامة والخاصة جوازه ـ أن يذكر هذا الفعل المطلق دليلا على ذلك. وأن يقول: أراد بذلك ألا يحرج أمته. وقد علم أن الصلاة في الوقتين قد شرعت بأحاديث المواقيت. وابن عباس هو ممن روى أحاديث المواقيت. وإمامة جبريل له عند البيت. وقد صلي الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله، وصلي العصر حين صار ظل كل شيء مثليه. فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم إنما جمع على هذا الوجه فأي غرابة في هذا المعني؟! ومعلوم أنه كان قد صلي في اليوم الثاني كلا الصلاتين في آخر الوقت وقال: (الوقت ما بين هذين) فصلاته للأولى وحدها قي آخر الوقت أولى بالجواز. وكيف يليق بابن عباس أن يقول: فعل ذلك كي لا يحرج أمته، والوقت المشهور هو أوسع وأرفع للحرج من هذا الجمع الذي ذكروه؟ وكيف يحتج على من أنكر عليه التأخير لو كان النبي صلى الله عليه وسلم إنما صلي في الوقت المختص بهذا الفعل وكان له في تأخيره المغرب حين صلاها قبل مغيب الشفق وحدها، وتأخير العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه ما يغنيه عن هذا؟ وإنما قصد ابن عباس بيان جواز تأخير المغرب إلى وقت العشاء؛ ليبين أن الأمر في حال الجمع أوسع منه في غيره. وبذلك يرتفع الحرج عن الأمة.ثم ابن عباس قد ثبت عنه / في الصحيح أنه ذكر الجمع في السفر. وأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر في السفر إذا كان على ظهر سيره. وقد تقدم ذلك مفصلا. فعلم أن لفظ الجمع في عرفة وعادته إنما هو الجمع في وقت إحداهما، وأما الجمع في الوقتين فلم يعرف أنه تكلم به، فكيف يعدل عن عادته التي يتكلم بها إلى ما ليس كذلك؟ وأيضا، فابن شقيق يقول: حاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته. أتراه حاك في صدره أن الظهر لا يجوز تأخيرها إلى آخر الوقت، وأن العصر لا يجوز تقديمها إلى أول الوقت؟ وهل هذا مما يخفي على أقل الناس علما حتى يحيك في صدره منه؟ وهل هذا مما يحتاج أن ينقله إلى أبي هريرة أو غيره حتى يسأله عنه؟ إن هذا مما تواتر عند المسلمين وعلموا جوازه. وإنما وقعت شبهة لبعضهم في المغرب خاصة، وهؤلاء يجوزون تأخيرها إلى آخر وقتها: فالحديث حجة عليهم كيفما كان، وجواز تأخيرها ليس معلقاً بالجمع، بل يجوز تأخيرها مطلقاً إلى آخر الوقت حين يؤخر العشاء ـ أيضاً. وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين بين أحاديث المواقيت، وهكذا في الحديث الصحيح: (وقت المغرب ما لم يغب نور الشفق، ووقت العشاء إلى نصف الليل)، كما قال: (وقت الظهر ما لم يصر ظل كل شيء مثله، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس). فهذا /الوقت المختص الذي بينه بقوله وفعله وقال: (الوقت ما بين هذين) ليس له اختصاص بالجمع ولا تعلق به. ولو قال قائل: قوله جمع بينهما بالمدينة من غير خوف ولا سفر، المراد به الجمع في الوقتين كما يقول ذلك من يقوله من الكوفيين، لم يكن بينه وبينهم فرق. فلماذا يكون الإنسان من المطففين لا يحتج لغيره كما يحتج لنفسه ولا يقبل لنفسه ما يقبله لغيره ؟ وأيضاً، فقد ثبت هذا من غير حديث ابن عباس، ورواه الطحاوي: حدثنا ابن خزيمة وإبراهيم بن أبي داود، وعمران بن موسي، قال: أنا الربيع بن يحيي الأُشْنَاني، حدثنا سفيان الثوري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد اللّه، قال: جمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة للرخصة من غير خوف ولا علة. لكن ينظر حال هذا الأُشْنَاني. وجمع المطر عن الصحابة، فما ذكره مالك عن نافع أن عبد اللّه بن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء ليلة المطر جمع معهم في ليلة المطر، قال البيهقي: ورواه العمري، عن نافع فقال: قبل الشفق، وروى الشافعي في القديم: أنبأنا بعض أصحابنا عن أسامة بن زيد، عن معاذ بن عبد اللّه بن حبيب أن ابن عباس جمع بينهما في / المطر قبل الشفق، وذكر ما رواه أبو الشيخ الأصبهاني بالإسناد الثابت عن هشام بن عروة، وسعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: كانوا يجمعون بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة إذا جمعوا بين الصلاتين، ولا ينكر ذلك. وبإسناده عن موسي بن عقبة أن عمر بن عبد العزيز كان يجمع بين المغرب والعشاء الآخرة إذا كان المطر، وأن سعيد ابن المسيب وعروة بن الزبير وأبا بكر بن عبد الرحمن ومشيخة ذلك الزمان، كانوا يصلون معهم ولا ينكرون ذلك. فهذه الآثار تدل على أن الجمع للمطر من الأمر القديم المعمول به بالمدينة زمن الصحابة والتابعين، مع أنه لم ينقل أن أحدًا من الصحابة والتابعين أنكر ذلك، فعلم أنه منقول عندهم بالتواتر جواز ذلك، لكن لا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع إلا للمطر، بل إذا جمع لسبب هو دون المطر مع جمعه ـ أيضاً ـ للمطر كان قد جمع من غير خوف ولا مطر، كما أنه إذا جمع في السفر، وجمع في المدينة، كان قد جمع في المدينة من غير خوف ولا سفر،فقول ابن عباس جمع من غير كذا ولا كذا، ليس نفيا منه للجمع بتلك الأسباب، بل إثبات منه، لأنه جمع بدونها وإن كان قد جمع بها أيضاً. ولو لم ينقل أنه جمع بها، فجمعه بما هو دونها دليل على الجمع بها بطريق الأولى، فيدل ذلك على الجمع للخوف والمطر،وقد جمع بعرفة / ومزدلفة من غير خوف ولا مطر. فالأحاديث كلها تـدل على أنـه جمـع في الوقت الواحـد لرفـع الحرج عـن أمتـه، فيباح الجمع إذا كان في تركه حرج قد رفعه اللّه عن الأمة، وذلك يدل على الجمع للمرض الذي يحرج صاحبه بتفريق الصلاة بطريق الأولى والأحري، ويجمع من لا يمكنه إكمال الطهارة في الوقتين إلا بحرج كالمستحاضة، وأمثال ذلك من الصور. وقـد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: الجمع بين الصلاتين مـن غير عذر من الكبائر، وروى الثوري في جامعه عن سعيد، عن قتادة، عن أبي العالية، عن عمر. ورواه يحيي بن سعد، عن يحيي بن صبح:حدثني حميد بن هلال، عن أبي قتادة ـ يعني العدوي: أن عمر بن الخطاب كتب إلى عامل له: ثلاث من الكبائر: الجمع بين صلاتين إلا من عذر، والفرار من الزحف، والنهب. قال البيهقي: أبو قتادة أدرك عمر، فإن كان شهده كتب، فهو موصول، وإلا فهو إذا انضم إلى الأول صار قويا. وهذا اللفظ يدل على إباحة الجمع للعذر ولم يخص عمر عذرا من عذر. قال البيهقي: وقد روى فيه حديث موصول عن النبي صلى الله عليه وسلم في إسناده من لا يحتج به، وهو من رواية سلمان التيمي، عن حَنَش الصنعائي، عن عكرمة عن ابن عباس. ا هـ.
|